المجمع المسكوني الرابع
محتويات
مقدمة:
يُعتبر من أهمّ المجامع، إذ إنّ الكنيسة قد أكدّت في قراراته إيمانها بوحدة شخص المسيح وبـ"الطبيعتين في المسيح"، الطبيعة الإلهيّة والطبيعة الإنسانيّة. وقد نجم عن هذا المجمع انشقاقٌ أدّى إلى ابتعاد الكنائس الشرقيّة التالية: القبطيّة والأرمنيّة والسريانيّة عن الشركة مع الكنيستين الرومانيّة والبيزنطيّة. واليوم، ثمّة مساعٍ بين هذه الكنائس كافّة لإعادة الوحدة فيما بينها نتج عنها تحقيق بعض الخطوات في هذا النحو. بعد قانون الوحدة -الذي وضعه لاهوتيّون من الإسكندرية وأنطاكية- حصل اختلاف حول بعض التعابير الواردة فيه (راجع: المجمع المسكوني الثالث)، وذلك أن ثمة بعضا من الاسكندرانيين المتشددين رفضوا الاصطلاحات الأنطاكية، ولا سيما اصطلاح "طبيعتين" الذي كان يوازي عندهم (الاسكندرانيين) لفظة "اقنومين" (شخصين). وكانوا يفضلون عليها تعابير أخرى وردت عند كيرلّس مثل عبارة "طبيعة واحدة" في قولته الشهيرة: "طبيعة واحدة للإله الكلمة المتجسد"، غير أنهم، احتراما لكيرلّس، لم يجهروا بآرائهم قبل رقاده (+444). أبرز القائلين بـ "الطبيعة الواحدة" كان اوطيخا، وهو رئيس دير في القسطنطينية يضم أكثر من 300 راهب، يدعمه ديوسقورس بطريرك الإسكندرية.
الأسباب الداعية لعقد المجمع:
فسبب عقد المجمع المسكوني الرابع فهو انحراف اوطيخا في ما يخصّ سرّ تأنّس ابن الله. فقد قال اوطيخا إنّ طبيعتَي المسيح، الطبيعة الإلهيّة والطبيعة الإنسانيّة، اتّحدتا وصارتا بعد تأنّسه طبيعة واحدة، إذ ابتلعت الطبيعة الإلهيّة الطبيعة الإنسانيّة. وبرّر اوطيخا قوله هذا مستنداً إلى عبارة استعملها القدّيس كيرلّس الإسكندريّ (+444): "الطبيعة الواحدة المتجسّدة للإله الكلمة". وهنا، لا بدّ من توضيح معاني بعض الاصطلاحات المستعملة في ذلك العصر حتّى يتسنّى لنا الإحاطة بأسباب الانشقاق، ذلك أنّ سوء الفهم اللغويّ بين مسيحيّي تلك الأيّام (وبخاصّة في القسطنطينيّة وأنطاكية والإسكندرية)، كما اتّضح في ما بعد، قد ساهم في تشتّت الكنائس وتنابذها. إذاً عرف اوطيخا تعاليم كيرلّس غير انه سقط في المصيدة التي نصبها ابوليناريوس، إذ انه كان يقرأ تعاليم ابوليناريوس المزوّرة -التي استعملها كيرلس- ويعتبرها من الآباء الأولين. آمن اوطيخا بوجود طبيعتين للمسيح قبل التجسد (ربما يكون قد شايع اوريجنس الاسكندري في نظرية الوجود الأزلي للأرواح)، غير انه لم يعترف سوى بطبيعة واحدة بعد التجسد معتقدا بأن اللاهوت قد امتص الناسوت الذي ذاب في اللاهوت كما تذوب نقطة عسل عندما تسقط في محيط من الماء.
كيرلس وتعبير الطبيعة الواحدة:
لا ريب أنّ القدّيس كيرلّس كان يقصد بلفظ "طبيعة" (فيسيس باليونانيّة) الشخص الواحد، إذ كان يقول إنّ يسوع هو "طبيعة واحدة" مكوّنة من عنصرين، عنصر إلهيّ وعنصر إنسانيّ، أي إنّ يسوع هو "كائن فرد"، "شخص واحد"، إله وإنسان معاً. أمّا في أنطاكيّة والقسطنطينيّة، فكان لفظ "طبيعة" يعني الخصائص التي تحدّد الكائنات وتميّزها بعضها عن بعض. ففي هذا المعنى تتميّز الطبيعة الإلهيّة عن الطبيعة الإنسانيّة بالأزليّة والقدرة اللامتناهية من جهة والخلق من العدم من جهة اخرى. وهذا ما درج إلى اليوم عن لفظ "طبيعة"، أي إنّ الخصائص والميّزات التي يتمتّع بها أيّ كائن هي التي تحدّد طبيعته.
مجمع القسطنطينية 448:
في مجمع عُقد في القسطنطينية العام 448 رئسه فلافيانوس رئيس أساقفتها، قدّم اسابيوس أسقف مدينة "دورله" شكوى مكتوبة -قبلها فلافيانوس- ضد تعاليم اوطيخا يتّهمه فيها بالهرطقة. وكان اسابيوس قد اطّلع على مجلد من ثلاثة أجزاء عنوانه "الشحاذ" (والمقصود اوطيخا)، وضعه ثيودوريتوس أسقف قورش (الذي سيدين المجمع المسكوني الخامس كتاباته ضد كيرلس)، وقام بنشره في العام 447، والذي على أساسه اعتبر أن تعاليم اوطيخا هي غير أرثوذكسية. أثبت هذا المجمع فساد رأي اوطيخا وجرّده من رتبته الكنسية والرهبانية وقطعه عن الشركة. بيد أن اوطيخا، الذي لم يرتدع، رفع قضيته إلى مجامع رومية والإسكندرية وأورشليم لإنصافه. مما جعل أن ديوسقوروس بطريرك الاسكندرية اتخذ، في مجمع محلي، قرارا اعترف فيه بدرجات اوطيخا الكهنوتية وأعاده إلى ديره. غير أن لاون بابا رومية -على عكس قرار الإسكندرية- وافق على أعمال مجمع القسطنطينية (448)، وأصدر رسالة مجمعية شهيرة دان فيها هرطقة اوطيخا وشرح قضية أقنوم الكلمة الإلهي الواحد في طبيعتين.
مجمع أفسس 449:
من المعروف أن اوطيخا كان مقرَّبا من الإمبراطور ثيوذوسيوس بسبب كريسافيوس وزيره، لأن اوطيخا كان عراب كريسافيوس في المعمودية، وعليه فقد استطاع إقناع الإمبراطور بدعوة مجمع آخر للبحث في تعاليمه، وتمّ ذلك في افسس في السنة 499 . رئس هذا المجمع بطريرك الإسكندرية ديوسقوروس الذي تمكن من فرض رأيه على الآباء ال 135، وذلك بمؤازرة أساقفة مصر المتحيزين لاوطيخا وقوة سواعد زمرة من الرهبان المتعصبين يتزعمهم برسوم السوري. برر المجتمعون اوطيخا من كل التهم التي أُلصقت به، وحرموا بعض الأساقفة مناوئيه مثل فلافيانوس بطريرك القسطنطينية -الذي رقد بعد أيام معدودة وهو في طريقه إلى منفاه متأثرا بجراحاته بسبب الضرب الذي انهال عليه في إحدى جلسات المجمع -ودمنوس الإنطاكي وثيودوريتس القورشي. استطاع موفدو روما الهرب إلى بلادهم حاملين الاستدعاء من ضحايا هذا المجمع إلى لاون الكبير الذي سارع إلى عقد مجمع في رومية ودعا مجمع افسس ب"مجمع اللصوص". حاول أسقف رومية مرارا عديدة إقناع الإمبراطور ثيوذوسيوس بعقد مجمع مسكوني في ايطاليا، غير أن محاولاته كلها باءت بالفشل.
إلتآم المجمع:
في السنة 450 رقد الإمبراطور ثيوذوسيوس الثاني فخلفته بوليخاريا شقيقته التي وافقت على الزواج من مركيانوس قائد جيشها لمشاركتها بإدارة المملكة شريطة أن تبقى عذراء. أرجع مركيانوس الأساقفة المنفيين واستجاب لطلب البابا لاون، فدعا إلى مجمع في مدينة "خليقدون" اعتبرته الكنيسة الشرقية والغربية المجمع المسكوني الرابع. التأم مجمع خليقدونية في السنة 451 وشارك فيه 630 أسقفا، أبطلوا جميعهم مجمع افسس اللصوصي، ودانوا هرطقتي اوطيخا ونسطوريوس معاً، وحرموا ديوسقوروس أسقف الإسكندرية لتمنُّعه عن المثول أمام المجمع، على الرغم من دعوته ثلاث مرات إلى الحضور، وتاليا لتحيّزه وعدم أخلاقيته اللذين أظهرهما في مجمع افسس. قابل الآباء بحرارة رسالة لاون التي حال ديوسقوروس -في مجمع افسس (449)- دون قراءتها، وفيها يُفرّق لاون بوضوح خالص بين الطبيعتين – يشرح بوضوح وجود الطبيعتين في الأقنوم الواحد. وأعربوا عن إيمانهم بالابن الواحد "الكامل من حيث الوهيته والكامل من حيث إنسانيته، الإله الحقّ والإنسان الحقّ، واعترفوا "باتحاد الطبيعتين اتحادا جوهريا بلا انقسام ولا انفصال ولا اختلاط... وبأنه اتحاد حقيقي في الجوهر والتركيب"، فـ "في المسيح اقنوم واحد مؤلَّف من طبيعتين متميّزتين: اللاهوت والناسوت". ومن أهمّ ما ورد في هذا التحديد: "إنّ المسيح هو نفسه تامّ في الألوهة وتامّ في البشريّة، إله حقّ وإنسان حقّ. إنّه مساوٍ للآب في الألوهة ومساوٍ لنا في البشريّة، شبيه بنا في كلّ شيء ما خلا الخطيئة. قبل كلّ الدهور وُلد من الآب بحسب الألوهة، وفي الأيّام الأخيرة هو نفسه، لأجلنا ولأجل خلاصنا، وُلد من مريم العذراء و الدة الإله ، بحسب البشريّة. واحدٌ هو، وهو نفسه المسيح، ابن الله، الربّ، الذي يجب الاعتراف به في طبيعتين متّحدتين دون اختلاط ولا تحوّل ولا انقسام ولا انفصال. وهو لم ينقسم ولم ينفصل إلى شخصين، بل واحدٌ هو، وهو نفسه الابن الوحيد، الإله الكلمة، الربّ يسوع المسيح". في هذا التحديد الخلقيدونيّ أعاد الآباء التشديد على دستور الإيمان. كما شدّدوا على أمرين هامّين في ما يختصّ بشخص يسوع المسيح: الأمر الأوّل هو وحدة الشخص في السيّد المسيح، وهذا ما تدلّ عليه إشارة "واحدٌ هو، وهو نفسه"؛ فيسوع هو شخص واحد، وهو نفسه كلمة الله الأزليّ المولود من الآب قبل كلّ الدهور والمولود من السيّدة مريم في البشريّة. والأمر الثاني هو محافظة كلّ طبيعة من الطبيعتين على خصائصها في وحدة الشخص. فالكلمة صار بشراً واتّخذ الطبيعة البشريّة كلّها ما خلا الخطيئة، دون أن يتخلّى عن طبيعته الإلهيّة. برّأ مجمع خليقدونية ثيودوريتس القورشي وإيفا الرهاوي وبعض الأساقفة الآخرين، وذلك بعد تأييدهم قطع نسطوريوس واعترافهم بان مريم هي والدة الإله وإنكارهم تقسيم الابن الوحيد إلى اثنين. وسن المجمع ثلاثين قانونا، أشهرها القانون الثامن والعشرون المتعلق بالمساواة بالكرامة بين أسقفي روما القديمة وروما الجديدة (القسطنطينية)، وحرر أورشليم من سلطة القيصرية وأعطاها المرتبة الخامسة بين الكنائس الكبرى.
الخاتمة:
مع أنّ هدف الآباء الخلقيدونيّين هو بتّ مسألة وحدة الشخص في المسيح مرّة وإلى الأبد، مع التشديد على الطبيعتين فيه، لم ينجح المجمع في لمّ شمل كلّ الكنائس على الاعتراف بتحديداته العقائديّة، وذلك بسبب استعماله تعبير "الطبيعتين في المسيح" الذي يعني، عند الكنائس الشرقيّة ذات التقليد القبطيّ والأرمنيّ والسريانيّ وجود "شخصين في المسيح"، وهذا بالضبط ما رفضه الخلقيدونيّون رفضاً باتّاً، بتأكيدهم وحدة الشخص في المسيح. لذلك، شاع عن تلك الكنائس أنّها مونوفيزيّة، أي الكنائس "القائلة بالطبيعة الواحدة". لقد تبيّن بعد حوالي ألف وخمس مئة سنة أنّ الخلاف بين الكنائس الخلقيدونيّة، أي الأرثوذكسيّة والرومانيّة، والكنائس غير الخلقيدونيّة (فهي ليست مونوفيزيّة لأنّها لا تقول بالطبيعة الواحدة، لذلك من الأفضل استعمال تعبير "غير خلقيدونيّة")، أي القبطيّة والأرمنيّة والسريانيّة، هي خلافات على معاني الألفاظ ومدلولاتها، ولم يكن البتّة خلافاً على العقيدة. فكلّ الكنائس المذكورة أعلاه تؤكّد ألوهة المسيح وبشريّته، وتؤكّد أيضاً وحدة الشخص في المسيح. رجاؤنا كبير بأن ترى أعيننا دفن هذا الخلاف بين الكنائس والتعييد للوحدة.
مراجع:
- أوطيخة والمجمع المسكوني الرابع
- تاريخ الكنيسة القبطية الجزء الثالث تأليف السيدة ا.ل. بتشر
- تاريخ الكنيسة المسيحية تأليف أفغراف سميرنوف (روسي)
- المجمع المسكوني الرابع (كتاب مجموعة الشرع الكنيسة أو قوانين الكنيسة المسيحية الجامعة جمع وترجمة وتنسيق الارشمندريت حنانيا الياس كساب. منشورات النور 1998. ص 364 - 365)
المجامع المسكونية السبعة | |
---|---|
مجمع نيقية الأول - مجمع القسطنطينية الأول - مجمع افسس - مجمع خلقدونية - مجمع القسطنطينية الثاني - مجمع القسطنطينية الثالث - مجمع نيقية الثاني |