المجمع المسكوني السادس
مقدمة:
في أوائل القرن السابع كانت الإمبراطورية البيزنطية مهدّدة بأخطار من الخارج (خطر اجتياح الفرس ومن ثم العرب)، وتعاني من انقسامات دينية وسياسية من الداخل. ومنذ أن وصل هرقل إلى الحكم (610-641) أدرك ضرورة توحيد المونوفيسيت (القائلين بالطبيعة الواحدة) مع الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة من اجل وحدة الدولة وأمنها. الصيغة العقائدية، التي طرحها عليه سرجيوس بطريرك القسطنطينية لأجل تحقيق هذا التوحيد، هي القول ب"الفعل الواحد" لطبيعة المسيح الواحدة المتجسدة- وهي الصيغة التي كانت، في تلك الفترة، رائجة في الإسكندرية -والمقصود القول بأن جميع أعمال المسيح الإنسانية والإلهية صادرة عن فعل واحد او قوة واحدة فاعلة فيه. ومما لا شك فيه أن غاية هذا القول كانت لتطمين المونوفيسيت بأن الخليقدونيين (الذين يتّبعون تعليم المجمع المسكوني الرابع) يعتقدون حقا بوحدة شخص المسيح الأُقنومية.
لاقت هذه الصيغة الجديدة استحسان العديد من زعماء المونوفيسيت، وبخاصة الأرمن و السوريين ، فأبدوا استعدادهم لقبولها وعلى أساسها القبول بمجمع خليقدونية، فبدا بذلك أن طريق التوحيد بين الأطراف المتنازعة مفتوح. فبادر الإمبراطور هرقل واعترف بأثناسيوس الجمّال اليعقوبي بطريركا على انطاكية مقابل اعتراف هذا الاخير بقرارات مجمع خليقدون انطلاقا من صيغة الإيمان الجديد، وعيّن كيرس أسقف فاسس المتحمّس لصيغة "الفعل الواحد" بطريركا على الإسكندرية (631-641).
الأسباب الداعية لعقد المجمع:
إزاء هذا النجاح غير المتوقّع، سُمع أول اعتراض على هذا التعليم الغريب أطلقه القديس صفرونيوس وهو راهب دمشقي المولد يقيم في دير الأنبا ثيوذوسيوس في بيت لحم، وله من العمر ثمانون سنة. رأى هذا الشيخ الحكيم أن هذه الصيغة المبتدعة تخالف جوهريا عقيدة خليقدون، فحاول جاهدا إقناع كيرس وسرجيوس بطريركي الإسكندرية و القسطنطينية بالرجوع عمّا يخالف تعليم الآباء، فلم يفلح. في العام 634 انتُخِبَ صفرونيوس بطريركا على أورشليم، مما جعله يتحرك على مستوى آخر، فبعث برسائله السلامية إلى البطاركة وضمّن فيها موجز العقيدة المقدسة، وعقد مجمعا حرّم هذه الهرطقة الجديدة ودان القائلين بها. بيد أن عاصفة شديدة هبت على الشرق، أعني الفتح العربي الإسلامي، ازداد بنتيجتها هاجس الامبراطور في توحيد المسيحيين، فأصدر بيانا عقائدياً -كتبه سرجيوس بطريرك القسطنطينية بمؤازرة معاونه بيروس- يؤيد فيه الإيمان الذي حدده المجمع الرابع، غير انه يوجب القول ب "المشيئة الواحدة" ويحظّر استعمال عبارتَي "الفعل الواحد" و"الفعلين" في المسيح، لأن القول بالفعلين يقود إلى الاعتقاد بوجود "إرادتين متناقضتين في المسيح"، كما زعم.
شارك بطريركَ اورشليم نضاله من اجل المحافظة على استقامة التعليم الراهبُ القديس مكسيموس الذي تابع جهاده بعد رقاد صفرونيوس (+638)، فكتب ودافع دفاعا كبيراً عن عقيدة "المشيئتين في المسيح" مستنداً إلى اقوال القديسين اثناسيوس (إنه (المسيح) يُظِهر هنا مشيئتين(ديو ثيليماتا) : مشيئة بشرية تنتمي للجسد ، و مشيئة إلهية تنتمي لله) و امبروسيوس الذي دافع اكثر من مرة عن المشيئتين في كتابه "شرح الإيمان المسيحي" و غريغوريوس اللاهوتي. والواقع أن القول بالطبيعتين في المسيح يفترض القول بفعلين ومشيئتين، وذلك أن كل طبيعة بشريّة لا تتمتّع بإرادة بشرية هي طبيعة ناقصة ومجرد نظرية غير واقعية، وذلك فإن طبيعة المسيح البشرية لا يمكن أن تكون كاملة اذا كانت ناقصة الإرادة والفعل.
بعد سقوط سوريا و مصر بيد العرب المسلمين وفشل محاولات هرقل التوحيدية، أصدر قسطنديوس الثاني (حفيد هرقل) قراراً عقائدياً يحظّر فيه كل جدل بشأن المشيئة مكتفيا بأقوال الكتاب المقدس وقرارات المجامع المسكونية السابقة. غير أن مرتينوس، الذي انتُخب في العام 649 بابا على كنيسة رومية، لم يأبه بهذا القرار، فعقد -بتأثير من القديس مكسيموس وبحضوره- مجمعا في كنيسة اللاتران، حضره 105 أساقفة وعدد كبير من الرهبان شجبوا جميعهم القائلين بالمشيئة الواحدة ودانوا مروّجيها. مما حدا بالامبراطور أن أمرَ بتوقيف مرتينوس ومكسيموس (العام 653)، فنُفي الأول إلى القسطنطينية ومن ثم إلى بلاد القرم حيث مات جوعا بعد سنتين، واما مكسيموس فقُبض عليه وقطع له لسانه ويده اليمنى لكي يمتنع عن الكلام، ونفي هو واثنان من تلاميذه إلى القفقاز حيث رقد بالرب (+662). لُقِّبَ القديس مكسيموس ب "المعترف" وذلك لإصراره على الاعتراف بالإيمان القويم.
إلتآم وأعمال وقوانين المجمع:
اغتيل الإمبراطور قسطنديوس الثاني في سراقوسة، فتولى السلطة بعده قسطنطين الملقب باللحياني الذي اقتنع، بعد مشاورات عديدة أقامها في أمر المشيئتين، بعدم جدوى التنازلات التي بُذِلت من اجل الوحدة مع المونوفيسيت والتي أساءت إلى الإيمان الأرثوذكسي، فدعا إلى مجمع توضع فيه الأمور في نصابها الصحيح ويتوطّد من خلاله السلام في الكنيسة. التأم المجمع المسكوني السادس في القسطنطينية وحضره أكثر من 170 أسقفا، بينهم مكاريوس بطريرك إنطاكية. عقد المجمع أولى جلساته في ال 7 من تشرين الثاني سنة 086 وختمها في ال 16 من ايلول سنة 681، وكان عددها، كما يُعتقد، ثماني عشرة جلسة رئسها جاورجيوس بطريرك القسطنطينية. دان المجمع القائلين بالمشيئة الواحدة وأصدر تحديده العقائدي في التعليم بأن يسوع كان له مشيئتان طبيعيّتان وفعلان طبيعيّان من دون انقسام أو تحول أو انفصال، وتبعا لذلك فإن مشيئته الإنسانية لا تصادِم ولا تقاوِم مشيئته الإلهية الكلية القدرة بل بالأحرى تخضع لها.
الخاتمة:
على غرار المجمع المسكوني الخامس لم يسنّ هذا المجمع تشريعات كنسيّة. بيد انه التأم بعد عشر سنوات من انفضاضه، في القسطنطينية أيضاً، على عهد يوستنيانوس الثاني (وهو ابن قسطنطين اللحياني)، مجمع شارك فيه حوالي ال 328 أسقفا سُمّي بالمجمع المسكوني الخامس-السادس (البنثيكتي)، أو بمجمع "ترولّو" نسبة إلى قبة كنيسة القصر الامبراطوري التي كانوا مجتمعين تحتها. وضع مجمع ترولو قوانين كنسية لتنظيم شؤون إدارة الكنيسة الداخلية والقضاء على بعض التجاوزات، فاعتُبرت قوانينه -وعددها 102- كأنها صادرة عن كلا المجمعين الخامس والسادس المسكونيين.
مراجع:
- مجموع الشرع الكنسي للإرشمندريت حنانيا الياس كساب
- المجمع المسكوني السادس
- تاريخ الكنيسة المسيحية تأليف أفغراف سميرنوف
- رعيتي
المجامع المسكونية السبعة | |
---|---|
مجمع نيقية الأول - مجمع القسطنطينية الأول - مجمع افسس - مجمع خلقدونية - مجمع القسطنطينية الثاني - مجمع القسطنطينية الثالث - مجمع نيقية الثاني |
[[